فصل: تفسير الآية رقم (12)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الألوسي المسمى بـ «روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني» ***


تفسير الآية رقم ‏[‏4‏]‏

‏{‏فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ ‏(‏4‏)‏‏}‏

‏{‏فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا‏}‏ أي فمن لم يجد رقبة فالواجب عليه صيام شهرين متتابعين من قبل التماس، والمراد بمن لم يجد من لم يملك رقبة ولا ثمنها فاضلاً عن قدر كفايته لأن قدرها مستحق الصرف فصار كالعدم، وقدر الكفاية من القوت للمحترف قوت يوم‏.‏ وللذي يعمل قوت شهر على ما في «البحر» ومن له عبد يحتاج لخدمته واجد فلا يجزئه الصوم، وهذا بخلاف من له مسكن لأنه كلباسه ولباس أهله، وعند الشافعية المراد به من لم يملك رقبة أو ثمنها فاضلاً كل منهما عن كفاية نفسه وعياله العمر الغالب نفقة وكسوة وسكنى وأثاثاً لا بد منه، وعن دينه ولو مؤجلاً‏.‏

وقالوا‏:‏ إذا لم يفضل القنّ أو ثمنه عما ذكر لاحتياجه لخدمته لمنصب يأبى خدمته بنفسه أو ضخامة كذلك بحيث يحصل له بعتقه مشقة شديدة لا تحتمل عادة ولا أثر لفوات رفاهية أو مرض به أو بممونه فلا عتق عليه لأنه فاقد شرعاً كمن وجد ماءاً وهو يحتاجه لعطش وإلى اعتبار كون ذلك فاقداً كواجد الماء المذكور ذهب الليث أيضاً‏.‏

والفرق عندنا على ما ذكره الرازي في أحكام القرآن أن الماء مأمور بإمساكه لعطشه واستعماله محظور عليه بخلاف الخادم، واليسار والإعسار معتبران وقت التكفير والأداء، وبه قال مالك، وعن الشافعي أقوال في وقتهما أظهرها كما هو عندنا، قالوا‏:‏ لأن الكفار أعني الإعتاق عبادة لها بدل من غير جنسها كوضوء وتيمم وقيام صلاة وقعودها فاعتبر وقت أدائها، وغلب الثاني كمذهب أحمد‏.‏ والظاهرية شائبة العقوبة فاعتبر وقت الوجوب كما لو زنى قنّ ثم عتق فإنه يحدّ حدّ القنّ والثالث الأغلظ من الوجوب إلى الأداء، والرابع الأغلظ منهما، وأعرض عما بينهما‏.‏

ومن يملك ثمن رقبة إلا أنه دين على الناس فإن لم يقدر على أخذه من مديونه فهو فاقد فيجزئه الصوم وإن قدر فواجد فلا يجزئه وإن كان له مال ووجب عليه دين مثله فهو فاقد بعد قضاء الدين، وأما قبله فقيل فاقد أيضاً بناءاً على قول محمد أنه تحل له الصدقة المشير إلى أن ماله لكونه مستحقاً الصرف إلى الدين ملحق بالعدم حكماً، وقيل‏:‏ واجد لأن ملك المديون في ماله كامل بدليل أنه يملك جميع التصرفات فيه‏.‏

وفي «البدائع» لو كان في ملكه رقبة صالحة للتكفير فعليه تحريرها سواء كان عليه دين أو لم يكن لأنه واحد حقيقة، وحاصله أن الدين لا يمنع تحرير الرقبة الموجودة، ويمنع وجوب شرائها بما عنده من مثل الدين على أحد القولين، والظاهر أن الشراء متى وجب يعتبر فيه ثمن المثل، وصرح بذلك النووي‏.‏

وغيره من الشافعية فقالوا‏:‏ لا يجب شراء الرقبة بغبن أي زيادة على ثمن مثلها نظير ما يذكر في شراء الماء للطهارة، والفرق بينهما بتكرر ذلك ضعيف، وعلى الأول كما قال الأذرعي‏.‏ وغيره نقلاً عن الماوردي واعتمدوه لا يجوز العدول للصوم بل يلزمه الصبر إلى الوجود بثمن المثل، وكذا لو غاب ماله فكيلف الصبر إلى وصوله أيضاً، ولا نظر إلى تضررهما بفوات التمتع مدة الصبر لأنه الذي ورط نفسه فيه انتهى‏.‏

وما ذكروه فيما لو غاب ماله موافق لمذهبنا فيه ولو كان عليه كفارتا ظهار لامرأتين وفي ملكه رقبة فقط فصام عن ظهار إحداهما، ثم أعتق عن ظهار الأخرى، ففي المحيط في نظير المسألة ما يقتضي عدم إجزاء الصوم عن الأولى قال‏:‏ عليه كفارتا يمين، وعنده طعام يكفي لإحداهما فصام عن إحداهما ثم أطعم عن الأخرى لا يجوز صومه لأنه صام وهو قادر على التكفير بالمال فلا يجزئه، ويعتبر الشهر بالهلال فلا فرق بين التام والناقص فمن صام بالأهلة واتفق أن كل شهر تسعة وعشرون حتى صار مجموع الشهرين ثمانية وخمسين أجزأه ذلك وإن غم الهلال اعتبر كما في «المحيط» كل شهر ثلاثين وإن صام بغير الأهلة فلا بدّ من ستين يوماً كما في «فتح القدير»، ويعتبر الشهر بالهلال عند الشافعية أيضاً، وقالوا‏:‏ إن بدأ في أثناء شهر حسب الشهر بعده بالهلال لتمامه وأتم الأول من الثالث ثلاثين لتعذر الهلال فيه بتلفقه من شهرين، وعلى هذا يتفق كون صيامه ستين وكونه تسعة وخمسين، ولا يتعين الأول كما لا يخفى فلا تغفل، وإن أفطر يوماً من الشهرين ولو الأخير بعذر من مرض أو سفر لزم الاستئناف لزوال التتابع وهو قادر عليه عادة، وقال أبو حيان‏:‏ إن أفطر بعذر كسفر فقال ابن المسيب‏.‏ والحسن‏.‏ وعطاء‏.‏ وعمرو بن دينار‏.‏ والشعبي‏.‏ ومالك‏.‏ والشافعي في أحد قوليه‏:‏ يبنى اه، وإن جامع التي ظاهر منها في خلال الشهرين ليلاً عامداً أو نهاراً ناسياً استأنف الصوم عند أبي حنيفة‏.‏ ومحمد، وقال أبو يوسف‏:‏ لا يستأنف لأنه لا يمنع التتابع إذ لا يفسد به الصوم وهو الشرط، ولهما أن المأمور به صيام شهرين متتابعين لا مسيس فيهما فإذا جامعها في خلالها لم يأت بالمأمور به، وإن جامع زوجة أخرى غير المظاهر منها ناسياً لا يستأنف عند الإمام أيضاً كما لو أكل ناسياً لأن حرمة الأكل والجماع إنما هو للصوم لئلا ينقطع التتابع ولا ينقطع بالنسيان فلا استئناف بخلاف حرمة جماع المظاهرة فإنه ليس للصوم بل لوقوعه قبل الكفارة، وتقدمها على المسيس شرط حلها، فبالجماع ناسياً في أثنائه يبطل حكم الصوم المتقدم في حق الكفارة، ثم إنه يلزم في الشهرين أن لا يكون فيهما صوم رمضان لأن التتابع منصوص عليه وشهر رمضان لا يقع عن الظهار لما فيه من إبطال ما أوجب الله تعالى، وأن لا يكون فيهما الأيام التي نهى عن الصوم فيها وهي يوما العيدين وأيام التشريق لأن الصوم فيها ناقص بسبب النهي عنه فلا ينوب عن الواجب الكامل‏.‏

وفي «البحر»‏:‏ المسافر في رمضان له أن يصومه عن واجب آخر، وفي المريض روايتان، وصوم أيام نذر معينة في أثناء الشهرين بنية الكفارة لا يقطع التتابع، ومن قدر على الإعتاق في اليوم الأخير من الشهرين قبل غروب الشمس وجب عليه الإعتاق لأن المراد استمرار عدم الوجود إلى فراغ صومهما وكان صومه حينئذٍ تطوعاً، والأفضل إتمام ذلك اليوم وإن أفطر لا قضاء عليه لأنه شرع فيه مسقطاً لا ملتزماً خلافاً لزفر‏.‏

وفي تحفة الشافعية لو بان بعد صومهما أن له مالاً ورثه ولم يكن عالماً به لم يعتدّ بصومه على الأوجه اعتباراً بما في نفس الأمر أي وهو واجد بذلك الاعتبار، وليس في بالي حكم ذلك عند أصحابنا، ومقتضى ظاهر ما ذكروه فيمن تيمم وفي رحله ماء وضعه غيره ولم يعلم به من صحة تيممه الاعتداد بالصوم ههنا، وقد صرح الشافعية فيمن أدرج في رحله ماءاً ولم يقصر في طلبه أو كان بقربه بئر خفية الآثار بعدم بطلان تيممه فلينظر الفرق بين ما هنا وما هناك، ولعله التغليظ في أمر الكفارة دون التيمم فليرجع ‏{‏فَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ‏}‏ أي صيام شهرين متتابعين، وذلك بأن لم يستطع أصل الصيام أو بأن لم يستطع تتابعه لسبب من الأسباب ككبر أو مرض لا يرجى زواله كما قيده بذلك ابن الهمام‏.‏ وغيره وعليه أكثر الشافعية وقال الأقلون منهم كالإمام ومن تبعه وصححه في «الروضة»‏:‏ يعتبر دوامه في ظنه مدة شهرين بالعادة الغالبة في مثله أو بقول الأطباء، قال ابن حجر‏:‏ ويظهر الاكتفاء بقول عدل منهم، وصرح الشافعية بأن من تلحقه بالصيام أو تتابعه مشقة شديدة لا تحتمل عادة وإن لم تبح التيمم فيما يظهر غير مستطيع، وكذا من خاف زيادة مرض، وفي حديث أوس على ما ذكر أبو حيان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين‏؟‏ فقال‏:‏ والله يا رسول الله إني إذا لم آكل في اليوم والليلة ثلاث مرات كل بصري وخشيت أن تعشو عيني ‏"‏ الخبر، وعدوا من أسباب عدم الاستطاعة الشبق وهو شدة الغلمة‏.‏

واستدل له بما أخرج الإمام أحمد‏.‏ وأبو داود‏.‏ وابن ماجه‏.‏ والترمذي وحسنه‏.‏ والحاكم وصححه‏.‏ وغيرهم عن سلمة بن صخر قال‏:‏ كنت رجلاً قد أوتيت من جماع النساء ما لم يؤت غيري فلما دخل رمضان ظاهرت من امرأتي حتى ينسلخ رمضان فرقاً من أن أصيب منها في ليلي فأتتابع في ذلك ولا أستطيع أن أنزع حتى يدركني الصبح فبينما هي تخدمني ذات ليلة إذ تكشف لي منها شيء فوثبت عليها إلى أن قال فخرجت فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته بخبري فقال‏:‏

‏"‏ أنت بذاك‏؟‏ قلت‏:‏ أنا بذاك، فقال‏:‏ أنت بذاك‏؟‏ قلت‏:‏ أنا بذاك وها أنا ذا فامض في حكم الله تعالى فإني صابر لذلك قال‏:‏ أعتق رقبة فضربت صفحة عنقي بيدي فقلت‏:‏ لا والذي بعثك بالحق ما أصبحت أملك غيرها، قال‏:‏ فصم شهرين متتابعين، فقلت‏:‏ وهل أصابني ما أصابني إلا في الصيام، قال‏:‏ فأطعم ستين مسكيناً ‏"‏ الحديث فإنه أشار بقوله‏:‏ ‏"‏ وهل أصابني ‏"‏ الخ إلى شدة شبقه الذي لا يستطيع معه صيام شهرين متتابعين، وإنما لم يكن عذراً في صوم رمضان قال ابن حجر‏:‏ لأنه لا بدل له، وذكر أن غلبة الجوع ليست عذراً ابتداءاً لفقده حينئذٍ فيلزمه الشروع في الصيام فإذا عجز عنه أفطر‏.‏ وانتقل عنه للإطعام بخلاف الشبق لوجوده عند الشروع فيدخل صاحبه في عموم قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ‏}‏‏.‏

‏{‏فَإِطْعَامُ سِتّينَ مِسْكِيناً‏}‏ لكل مسكين نصف صاع من بر‏.‏ أو صاع من تمر‏.‏ أو شعير ودقيق كل كأصله، وكذا السويق، وذلك لأخبار ذكرها ابن الهمام في «فتح القدير»، والصاع أربعة أمداد‏.‏

وقال الشافعية‏:‏ لكل مسكين مدّ لأنه صح في رواية، وصح في الأخرى صاع، وهي محمولة على بيان الجواز الصادق بالندب لتعذر النسخ فتعين الجمع بما ذكر مما يكون فطرة بأن يكون من غالب قوت محل المكفر في غالب السنة كالأقط ولو للبلدي فلا يجزىء نحو دقيق مما لا يجزى في الفطرة عندهم، ومذهب مالك كما قال أبو حيان مدّ وثلث بالمدّ النبوي، وروى عنه ابن وهب مدّان‏.‏

وقيل‏:‏ مدّ وثلثا مدّ، وقيل‏:‏ ما يشبع من غير تحديد، ولا فرق بين التمليك والإباحة عندنا فإن غدى الستين وعشاهم أو غدّاهم مرتين أو عشاهم كذلك أو غداهم وسحرهم أو سحرهم مرتين وأشبعهم بخبز بر أو شعير أو نحوه كذرة بإدام أجزأه، وإن لم يبلغ ما شبعوا به المقدار المعتبر في التمليك، ويعتبر اتحاد الستين فلو غدى مثلاً ستين مسكيناً وعشى ستين غيرهم لم يجز إلا أن يعيد على إحدى الطائفتين غداء أو عشاء، ولو أطعم مائة وعشرين مسكيناً في يوم واحد أكلة واحدة مشبعة لم يجز إلا عن نصف الإطعام فإن أعاده على ستين منهم أجزأه، واشترط الشافعية التمليك اعتباراً بالزكاة وصدقة الفطر، وهذا لأن التمليك أدفع للحاجة فلا ينوب منابه الإباحة، ونحن نقول‏:‏ المنصوص عليه هنا هو الإطعام وهو حقيقة في التمكين من الطعم، وفي الإباحة ذلك كما في التمليك، وفي الزكاة الإيتاء، وفي صدقة الفطر الأداء، وهما للتمليك حقيقة كذا في «الهداية» قال العلامة ابن الهمام‏:‏ لا يقال‏:‏ اتفقوا على جواز التمليك فلو كان حقيقة الإطعام ما ذكر كان مشتركاً معمماً أو في حقيقته ومجازه لأنا نقول‏:‏ جواز التمليك عندنا بدلالة النص، والدلالة لا تمنع العمل بالحقيقة كما في حرمة الشتم والضرب مع التأفيف فكذا هذا فلما نص على دفع حاجة الأكل فالتمليك الذي هو سبب لدفع كل الحاجات التي من جملتها الأكل أجوز فإنه حينئذٍ دافع لحاجة الأكل وغيره، وذكر الواني أن الإطعام جعل الغير طاعماً أي آكلاً لأن حقيقة طعمت الطعام أكلته، والهمزة تعديه إلى المفعول الثاني أي جعلته آكلاً، وأما نحو أطعمتك هذا الطعام فيكون هبة وتمليكاً بقرينة الحال، قالوا‏:‏ والضابط أنه إذا ذكر المفعول الثاني فهو للتمليك وإلا فللإباحة، هذا والمذكور في كتب اللغة أن الإطعام إعطاء الطعام وهو أعم من أن يكون تمليكاً أو إباحة انتهى فلا تغفل‏.‏

ويجوز الجمع بين الإباحة والتمليك لبعض المساكين دون البعض كما إذا ملك ثلاثين وأطعم ثلاثين غداءاً وعشاءاً وكذا لرجل واحد في إحدى روايتين كأن غداة مثلاً وأعطاه مدّاً وإن أعطى مسكيناً واحداً ستين يوماً أجزأه وإن أعطاه في يوم واحد لم يجزه إلا عن يومه لأن المقصود سدّ خلة المحتاج، والحاجة تتجدد في كل يوم، فالدفع إليه في اليوم الثاني كالدفع إليه في غيره، وهذا في الإباحة من غير خلاف، وأما التمليك من مسكين واحد بدفعات فقد قيل‏:‏ لا يجزيه، وقيل‏:‏ يجزيه لأن الحاجة إلى التمليك قد تتجدد في يوم واحد بخلاف ما إذا دفع بدفعة لأن التفريق واجب بالنص، وخالف الشافعية، فقالوا‏:‏ لا بد من الدفع إلى ستين مسكيناً حقيقة فلا يجزي الدفع لواحد في ستين يوماً، وهو مذهب مالك، والصحيح من مذهب أحمد وبه قال أكثر العلماء لأنه تعالى نص على ستين مسكيناف، وبتكرر الحاجة في مسكين واحد لا يصير هو ستين فكان التعليل بأن المقصود سدّ خلة المحتاج الخ مبطلاً لمقتضى النص فلا يجوز، وأصحابنا أشدّ موافقة لهذا الأصل، ولذا قالوا‏:‏ لا يجزىء الدفع لمسكين واحد وظيفة ستين بدفعة واحدة معللين له بأن التفريق واجب بالنص مع أن تفريق الدفع غير مصرح به، وإنما هو مدلول التزامي لعدد المساكين فالنص على العدد أولى لأنه المستلزم، وغاية ما يعطيه كلامهم أنه بتكرر الحاجة يتكرر المسكين حكما فكان تعدداً حكما، وتمامه موقوف على أن ستين مسكيناً في الآية مراد به الأعم من الستين حقيقة أو حكماً‏.‏

ولا يخفى أنه مجاز فلا مصير إليه بموجبه، فإن قلت‏:‏ المعنى الذي باعتباره يصير اللفظ مجازاً ويندرج فيه التعدد الحكمي ما هو‏؟‏ قلت‏:‏ هو الحاجة فيكون ستين سكيناً مجازاً عن ستين حاجة، وهو أعم من كونها حاجات ستين أو حاجات واحد إذا تحقق تكررها إلا أن الظاهر إنما هو عدد معدوده ذوات المساكين مع عقلية أن العدد مما يقصد لما في تعميم الجميع من بركة الجماعة وشمول المنفعة واجتماع القلوب على المحبة والدعاء قاله في فتح القدير وهو كلام متين يظهر منه ترجيح مذهب الجمهور، وذهب الأصحاب إلى أنه لا يشترط اتحاد نوع المدفوع لكل من المساكين فلو دفع لواحد بعضاً من الحنطة وبعضاً من الشعير مثلا جاز إذا كان المجموع قدر الواجب كأن دفع ربع صاع من بر ونصف صاع من شعير، وجاز نحو هذا التكميل لاتحاد المقصود وهو الإطعام ولا يجوز دفع قيمة القدر الواجب من منصوص عليه، وهو البر‏.‏

والشعير‏.‏ ودقيق كل، وسويقه‏.‏ والزبيب‏.‏ والتمر إذا كانت من منصوص عليه آخر إلا أن يبلغ المدفوع الكمية المقدرة شرعاً فلو دفع نصف صاع تمر يبلغ قيمة نصف صاع بر لا يجوز، فالواجب عليه أن يتم للذين أعطاهم القدر المقدر من ذلك الجنس الذي دفعه إليهم فإن لم يجدهم بأعيانهم استأنف في غيرهم، ومن غير المنصوص كالأرز‏.‏ والعدس يجوز كما إذا دفع ربع صاع من أرز يساوي قيمة نصف صاع من بر مثلاً، وذلك لأنه لا اعتبار لمعنى النص في المنصوص عليه وإنما الاعتبار في غير المنصوص عليه، ونقل في ذلك خلاف الشافعي رحمه الله تعالى فلا يجوز دفع القيمة عنده مطلقاً، ولا يجوز في الكفارة إعطاء المسكين أقل من نصف صاع من البر مثلاٌ فقط، ففي التاتار خانية لو أعطى ستين مسكيناً كل مسكين مدّاً من الحنطة لم يجز، وعليه أن يعيد مدّاً آخر على كل فإن لم يجد الأولين فأعطى ستين آخرين كلا مدّاً لم يجز، ولو أعطى كلا من المساكين مدّاً ثم استغنوا ثم افتقروا فأعاد على كل مدّاً لم يجز، وكذا لو أعطى المكاتبين مدّاً مدّاً ثم ردوا إلى الرق ومواليهم أغنياء ثم كوتبوا ثانياً ثم أعاد عليهم لم يجز لأنهم صاروا بحال لا يجوز دفع الكفارة إليهم فصاروا كجنس آخر، وعليه فالمراد بستين مسكيناً ستون مسكيناً لم يعرض لهم في أثناء الإطعام ما ينافي ذلك، والظاهر أن فاعل إطعام هو المظاهر الغير المستطيع للصيام، ولا فرق بين أن يباشر ذلك أو يأمر به غيره، فإن أمر غيره فاطعم أجزأ لأنه استقراض معنى، فالفقير قابض له أولا ثم يتحقق تملكه ثم تمليكه، والمراد بالمسكين ما يعم الفقير، وقد قالوا‏:‏ المسكين والفقير إذا اجتمعا افترقا وإذا اقترفا اجتمعا، ويشترط أن لا يكون المطعم أصله‏.‏

أو فرعه‏.‏ أو زوجته‏.‏ أو مملوكه‏.‏ أو هاشمياً لمزيد شرفه فيجل عن هذه الغسالة، ولا حربياً ولو مستأمناً لمزيد خسته فليس أهلاً لأدنى منفعة، ويجوز أن يكون ذمياً ولو دفع بتحرّ فبان أنه ليس بمصرف أجزأه عندهما خلافاً لأبي يوسف كما في البدائع‏.‏

واستنبط الشافعية من التعبير بعدم الوجود عند الانتقال إلى الصوم، وبعدم الاستطاعة عند الانتقال إلى الإطعام أنه لو كان له مال غائب ينتظره ولا يصوم ولو كان مريضاً يرجى برؤه يطعم ولا ينتظر الصحة ليصوم، وهو موافق لمذهبنا في الصوم لا في الاطعام كما سمعت، ثم هذا الحكم في الأحرار أما العبد فلا يجوز له إلا الصوم لأنه لا يملك وإن ملك والاعتاق والإطعام شرطهما الملك فإن أعتق عنه المولى أو أطعم لم يجز ولو بأمره، ويجب تقديم الإطعام على المسيس فإن قريب المظاهر المظاهرة في خلاله أثم، ولم يستأنف لأنه عز وجل ما شرط فيه أن يكون قبل المسيس كما شرط فيما قبل، ونحن لا نحمل المطلق على المقيد وإن كانا في حادثة واحدة بعد أن يكونا حكمين، والوجوب قيل‏:‏ لم يثبت إلا لتوهم وقوع الكفارة بعد التماس بيانه أنه لو قدر على العتق أو الصيام في خلال الاطعام أو قبله يلزمه التكفير بالمقدور عليه فلو جوز للعاجز عنهم القربان قبل الإطعام، ثم اتفق قدرته فلزمالتكفير به لزم أن يقع العتق بعد التماس، والمفضى إلى الممتنع ممتنع‏.‏

وتعقب بأن فيه نظراً فإن القدرة حال قيام العجز بالفقر والكبر والمرض الذي لا يرجى زواله أمر موهوم، وباعتبار الأمور الموهومة لا تثبت الأحكام ابتداءاً بل يثبت الاستحباب ورعا فالأولى الاستدلال على حرمة المسيس قبل الإطعام لمن يتعين كفارة له بما ورد من حديث «اعتزالها حتى تكفر» ونحوه، وما ذكر من أنه لو قدر على العتق مثلا خلال الإطعام لزم التكفير به خالف فيه الشافعية‏.‏

قال ابن حجر عليه الرحمة‏:‏ لا أثر لقدرته على صوم أو عتق بعد الاطعام ولو لمدّ كما لو شرع في صوم يوم من الشهرين فقدر على العتق، وأجاز بعض المسيس في خلال الاطعام من غير إثم، ونقل ذلك عن أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه وهو توهم نشأ من عدم إيجابه الاستئناف، وقد صرح في الكشاف بأنه لا فرق عند أبي حنيفة بين الكفارات الثلاث في وجوب تقديمها على المساس وإن ترك ذكره عند الإطعام للدلالة على أنه إذا وجد في خلال الإطعام لم يستأنف كما يستأنف الصوم‏.‏

وجعل بعضهم ذكر القيد فيما قبل وتركه في الإطعام دليلاً لأبي حنيفة في قوله‏:‏ بعدم الاستئناف أي مع الإثم‏.‏

وتعقبه ابن المنير في الانتصاف بأن لقائل أن يقول لأبي حنيفة‏:‏ إذا جعلت الفائدة في ذكر عدم التماس في بعضها وإسقاطه من بعضها الفرق بين أنواعها فلم جعلته مؤثراً في أحد الحكمين دون الآخر‏؟‏ وهل التخصيص إلا نوع من التحكم‏؟‏ ثم قال‏:‏ وله أن يقول‏:‏ اتفقنا على التسوية بين الثلاث في هذا الحكم أعني حرمة المساس قبل التكفير، وقد نطقت الآية بالتفرقة فلم يمكن صرفها إلى ما وقع الاتفاق على التسوية فيه فتعين صرفه إلى الآخر، هذا منتهى النظر مع أبي حنيفة؛ وأطال الكلام في هذا المقام بما لا يخلو عن بحث على أصول الإمام‏.‏

وإذا عجز المظاهر عن الجميع قال الشافعية‏:‏ استقرت في ذمته فإذا قدر على خصلة فعلها ولا أثر لقدرته على بعض عتق أو صوم بخلاف بعض الطعام ولو بعض ما يجب لواحد من المساكين فيخرجه، ثم الباقي إذا أيسر، والظاهر بقاء حرمة المسيس إلى أن يؤدي الكفارة تماماً ولم يبال باضرار المرأة بذلك لأن الأيسار مترقب كزوال المرض المانع من الجماع، ولم أراجع حكم المسألة في الظاهر عند الحنفية، وأما في الجماع في نهار رمضان الموجب للكفارة فقد قال ابن الهمام بعد نقل حديث الأعرابي الواقع على امرأته فيه العاجر عن الخصال الثلاثة، وفيه‏:‏ ‏"‏ فأتي النبي صلى الله عليه وسلم بعرق فيه تمر فقال‏:‏ تصدق به، فقال‏:‏ أعلى أفقر مني يا رسول الله‏؟‏ فوالله ما بين لابتيها أفقر مني ولا أهل بيت أفقر من أهل بيتي، فضحك صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه ثم قال‏:‏ خذه فأطعمه أهلك ‏"‏ في لفظ لأبي داود زاد الزهري وإنما كان هذا رخصة له خاصة، ولو أن رجلاً فعل ذلك اليوم لم يكن له بدّ من التكفير، وجمهور العلماء على قوله، وذكر النووي في «شرح صحيح مسلم» أن للشافعي في هذا العاجز قولين‏:‏ أحدهما لا شيء عليه واحتج له بحديث الأعرابي المذكور عليه الصلاة والسلام لم يقل له‏:‏ إن الكفارة ثابتة في ذمته بل أذن له في إطعام عياله والثاني وهو الصحيح عند أصحابنا وهو المختار أن الكفارة لا تسقط بل تستقر في ذمته حتى يتمكن قياساً على سائر الديون والحقوق والمؤاخذات كجزاء الصيد وغيره، وأما الحديث فليس فيه نفي استقرار الكفارة بل فيه دليل لاستقرارها لأنه أخبر النبي‏:‏ صلى الله عليه وسلم بالعجز عن الخصال ثم أتى عليه الصلاة والسلام بعرق التمر فأمره بإخراجه في الكفارة فلو كانت تسقط بالعجز لم يكن عليه شيء فلم يأمره بالإخراج فدل على ثبوتها في ذمته، وإنما أذن له في إطعام عياله لأنه محتاج إلى الإنفاق عليهم في الحال والكفارة واجبة على التراخي، وإنما لم يبين عليه الصلاة والسلام بقاءها في ذمته لأن تأخير البيان إلى وقت الحاجة جائز عند جماهير الأصوليين فهذا هو الصواب في معنى الحديث، وحكم المسألة وفيها أقوال وتأويلاتأخر ضعيفة انتهى‏.‏

ومن الناس من قال‏:‏ لم يكن هناك تأخير بيان وإنما اكتفى صلى الله عليه وسلم بفهم الأعرابي عن التصريح له بالاستقرار، والاخبار في وقوع مثل ذلك للمظاهر مضطربة كما لا يخفى على من راجع الدر المنثور للسيوطي‏.‏

ومسائل الظاهر كثيرة والمذاهب في ذلك مختلفة، ومن أراد كمال الاطلاع فليرجع إلى كتب الفروع، ولولا التأسي ببعض الأجلة لما ذكرنا شيئاً منها، ومع هذا لا يخلو أكثره عن تعلق بتفسير الآية والله تعالى أعلم‏.‏

‏{‏ذلك‏}‏ إشارة إلى ما مر من البيان والتعليم، ومحله إما الرفع على الابتداء أو النصب بمضمر معلل بما بعده أي ذلك واقع أو فعلنا ذلك ‏{‏لّتُؤْمِنُواْ بالله وَرَسُولِهِ‏}‏ وتعملوا بشرائعه التي شرعها لكم وترفضوا ما كنتم عليه في جاهليتكم ‏{‏وَتِلْكَ‏}‏ الأحكام المذكورة ‏{‏حُدُودَ الله‏}‏ التي لا يجوز تعديها فالزموها وقفوا عندها ‏{‏وللكافرين‏}‏ أي الذين يتعدونها ولا يعملون بها ‏{‏عَذَابٌ أَلِيمٌ‏}‏ على كفرهم وأطلق الكافر على متعدى الحدود تغليظاً لزجره، ونظير ذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِىٌّ عَنِ العالمين‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 97‏]‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏5‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنْزَلْنَا آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ ‏(‏5‏)‏‏}‏

‏{‏إِنَّ الذين يُحَادُّونَ الله وَرَسُولَهُ‏}‏ أي يعادونهما ويشاقونهما لأن كلا من المتعاديين في حدّ وجهة غير حدّ الآخر وجهته كما أن كلا منهما في عدوة وشق غير عدوة الآخر وشقه، وقيل‏:‏ إطلاق ذلك على المتعاديين باعتبار استعمال الحديد لكثرة ما يقع بينهما من المحاربة بالحديد كالسيوف والنصال وغيرها، والأول أظهر، وفي ذكر المحادّة في أثناء ذكر حدود الله تعالى دون المعاداة والمشاقة حسن موقع جاوز الحد، وقال ناصر الدين البيضاوي‏:‏ أو يضعون أو يختارون حدوداً غير حدود الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم ومناسبته لما قبله في غاية الظهور‏.‏

قال الملوى شيخ الإسلام سعد الله جلبي‏:‏ وعلى هذا ففيه وعيد عظيم للملوك وأمراء السوء الذين وضعوا أموراً خلاف ما حده الشرع وسموها اليسا والقانون، والله تعالى المستعان على ما يصفون اه، وقال شهاب الدين الخفاجي بعد نقله‏:‏ وقد صنف العارف بالله الشيخ بهاء الدين قدس الله تعالى روحه رسالة في كفر من يقول‏:‏ يعمل بالقانون والشرع إذا قابل بينهما، وقد قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 3‏]‏ وقد وصل الدين إلى مرتبة من الكمال لا يقبل التكميل، وإذا جاء نهر الله بطل نهر معقل، ولكن أين من يعقل‏؟‏ا انتهى‏.‏

وليتني رأيت هذه الرسالة وقفت على ما فيها فإن إطلاق القول بالكفر مشكل عندي فتأمل، ثم إنه لا شبهة في أنه لا بأس بالقوانين السياسية إذا وقعت باتفاق ذوي الآراء من أهل الحل والعقد على وجه يحسن به إياك أن تقول في مجلسنا‏:‏ المسألة شرعا كذا، وقد أصابني منه عامله الله بعدله لعدولي عن قوله مزيد الأذى، واتفق أن قال لي بعض خاصته يوماً‏:‏ أرى ثلثي الشرع شراً، فقلت له وإن كنت عالماً أن في أذنيه وقراً‏:‏ نعم ظهر الشر لما أذهبتم من الشرع العين، ولم تأخذوا من اسمه سوى حرفين؛ فتأمل العبارة وتغير وجهه لما فهم الإشارة، والذي ينبغي أن يقال في ذلك‏:‏ إن ما يرجع من تلك الأصول إلى ما يتعلق بسوق الجيوش وتعبئتهم وتعليمهم ما يلزم في الحرب مما يغلب على الظن الغلبة به على الكفرة وما يتعلق بأحكام المدن والقلاع ونحو ذلك لا بأس في أكثره على ما نعلم، وكذا ما يتعلق بجزاء ذوي الجنايات التي لم يرد فيها عن السارع حد خصوص بل فوض التأديب عليها إلى رأي الإمام كأنواع التعاذير، وللإمام أن يستوفي ذلك وإن عفا المجني عليه لأن الساقط به حق الآدمي والذي يستوفيه الإمام حق الله تعالى للمصلحة كما نص على ذلك العلامة ابن حجر في «شرح المنهاج»، والقواعد لا تأباه، نعم ينبغي أن يجتنب في ذلك الإفراط والتفريط، وقد شاهدنا في في العراق مما يسمونه «جزاءاً» ما القتل أهون منه بكثير‏.‏

ومثل ذلك ظلم عظيم وتعد كبير‏.‏

وأما ما يتعلق بالحدود الآلهية كقطع السارق‏.‏ ورجم الزاني المحصن‏.‏ وما فصل في حق قطاع الطريق من قطع الأيدي والأرجل من خلاف وغيره مما فصل في آيتهن إلى غير ذلك فظاهر أمره دخوله في حكم الآية هنا على ما ذكره البيضاوي‏.‏

وأما ما يتعلق بالمعاملات والعقود فإن كان موافقاً لما ورد عن الشارع فيها من الصحة وعدمها سميناه «شرعاً» ولا نسميه «قانوناً» و«أصولاً» وإن لم يكن موافقاً لذلك كالحكم في إعطاء الربا مثلا المسمى عندهم بالكرشتة لزعم أنه تتعطل مصالح الناس لو لم يحكم بذلك فهو حكم بغير ما أنزل الله عز وجل‏.‏

وأما ما يتعلق بحق بين المال في الأراض فما كان موافقاً لعمل النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين فذاك وما كان مخالفاً لعمل الخلفاء الصادر منهم باجتهاد فإن كانت مخالفته إلى ما هو أسهل وأنفع للناس فنظراً إلى زمانهم فهو مما لا بأس فيه، وإن كانت مخالفته إلى ما هو أشق ففيه بأس، ولا يجري هذا التفصيل فيما وصفه رسول الله عليه الصلاة والسلام كالعشر في بعض الأراضي التي فتحت في زمنه الشريف صلى الله عليه وسلم فإنه لا تجوز المخالفة فيه أصلاً على ما ذكره أبو يوسف في «كتاب الخراج» وما ليس فيه موافقة ولا مخالفة بحسب الظاهر بأن لم يكن منصوصاً عليه فإن كان يندرج في العمومات المنصوص عليها في أمر الأراضي فذاك وإلا فقبوله ورده باعتبار المدخول في العمومات الواردة في الحظر والإباحة فإن دخل في عمومات الإباحة قبل وإن في عمومات الحظر رد، وأمر تكفير العامل بالأصول المذكورة خطر فلا ينبغي إطلاق القول فيه، نعم لا ينبغي التوقف في تكفير من يستحسن ما هو بين المخالفة للشرع منها ويقدمه على الأحكام الشرعية متنقصاً لها به، ولقد سمعت بعض خاصة أتباع بعض الولاة يقول‏:‏ وإن تلك الأحكام أصول وقوانين سياسية كانت حسنة في الأزمنة المتقدمة لما كان أكثر الناس بلهاً، وأما اليوم فلا يستقيم أمر السياسة بها والأصول الجديدة أحسن وأوفق للعقل منها، ويقول كلما ذكرها‏:‏ الأصول المستحسنة، وكان يرشح كلامه بنفي رسالة النبي صلى الله عليه وسلم وكذا رسالة الأنبياء عليهم السلام قبله، ويزعم أنهم كانوا حكماء في أوقاتهم توصلوا إلى أغراضهم بوضع ما ادعوا فيه أنه وحي من الله تعالى، فهذا وأمثاله مما لا شك في كفره وفي كفر من يدعي للمرافعة عند القاضي فيأبى إلا المرافعة بمقتضى تلك الأصول عند أهل تلك الأصول راضياً بما يقضون به عليه تردد وإنما لم يجزم بكفره مع قوله تعالى‏:‏

‏{‏فَلاَ وَرَبّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حتى يُحَكّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِى أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلّمُواْ تَسْلِيماً‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 65‏]‏ لأن حكم أكثر القضاة مخالف لحكم الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم في أكثر المسائل، والبلية العظمى أنهم يسمون ذلك شرعاً ومع ذلك يأخذون عليه ما يأخذون من المال ظلماً فلمن لم يرض بالمرافعة عند هؤلاء القضاء العجزة ويرضى بالمرافعة عند أهل الأصول عذر لذلك الانتظام ويصلح أمر الخاص والعام، ومنها تعيين مراتب التأديب والزجر على معاص وجنايات لم ينص الشارع فيها على حد معين بل فوض الأمر في ذلك لرأي الإمام فليس ذلك من المحادّة لله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم في شيء بل فيه استيفاء حقه تعالى على أتم وجه لما فيه من الزجر عن المعاصي وهو أمر مهم للشارع عليه الصلاة والسلام، ويرشد إليه ما في تحفة المحتاج أن للإمام أن يستوفي التعزير إذا عفى صاحب الحق لأن الساقط بالعفو هو حق الآدمي، والذي يستوفيه الإمام هو حق الله تعالى للمصلحة، وفي «كتاب الخراج» للإمام أبي يوسف عليه الرحمة إشارة إلى ذلك أيضاً؛ ولا يعكر على ذلك ونحوه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 3‏]‏ لأن المراد إكماله من حيث تضمنه ما يدل على حكمه تعالى خصوصاً أو عموماً، ويرشد إلى هذا عدم النكير على أحد من المجتهدين إذا قال بشيء لم يكن منصوصاً عليه بخصوصه، ومن ذلك ما ثبت بالقياس بأقسامه، نعم القانون الذي يكون وراء ذلك بأن كان مصادماً لما نطقت به الشريعة الغراء زائغاً عن سنن المحجة البيضاء فيه ما فيه كما لا يخفى على العارف النبيه، وقد يقال في الآية على المعنى الذي ذكره البيضاوي‏:‏ إن المراد بالموصول الواضعون لحدود الكفر وقوانينه كائمة الكفر أو المختارون لها العاملون بها كأتباعهم، ثم إن الآية على ما في البحر نزلت في كفار قريش ‏{‏كُبِتُواْ‏}‏ أي أخزوا كما قال قتادة، أو غيظوا كما قال الفراء أو ردّوا مخذولين كما قال ابن زيد أو أهلكوا كما قال أبو عبيدة‏.‏ والأخفش‏.‏

وعن أبي عبيدة أن تاءه بدل من الدال، والأصل كبدوا أي أصابهم داء في أكبادهم، وقال السدى‏:‏ لعنوا، وقيل‏:‏ الكبت الكب وهو الإلقاء على الوجه، وفسره الراغب هنا بالرد بعنف وتذليل، وذلك إشارة عند الأكثرين إلى ما كان يوم الخندق، وقيل‏:‏ إلى ما كان يوم بدر، وقيل‏:‏ معنى ‏{‏كُبِتُواْ‏}‏ سيكبتون على طريقة قوله تعالى‏:‏ ‏{‏اتِى أَمْرِ الله‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 1‏]‏ وهو بشارة للمؤمنين بالنصر على الكفار وتحقق كبتهم‏.‏

‏{‏كَمَا كُبِتَ الذين مِن قَبْلِهِمْ‏}‏ من كفار الأمم الماضية المحادّين لله عز وجل ورسله عليهم الصلاة والسلام ‏{‏وَقَدْ أَنزَلْنَا ءايات بينات‏}‏ حال من واو ‏{‏كُبِتُواْ‏}‏ أي كبتوا لمحادّتهم، والحال أنا قد أنزلنا آيات واضحات فيمن حاد الله تعالى ورسوله من قبلهم من الأمم وفيما فعلنا بهم، وقيل‏:‏ آيات تدل على صدق الرسول وصحة ما جاء به ‏{‏وللكافرين‏}‏ أي بتلك الآيات أو بكل ما يجب الإيمان به فتدخل فيه تلك الآيات دخولاً أولياً ‏{‏عَذَابٌ مُّهِينٌ‏}‏ يذهب بعزهم وكبرهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏6‏]‏

‏{‏يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ‏(‏6‏)‏‏}‏

‏{‏يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ الله‏}‏ منصوب بما تعلق به اللام من الاستقرار، أو بمهين أو باضمار اذكر أي أذكر ذلك اليوم تعظيماً له وتهويلاً، وقيل‏:‏ منصوب بيكون مضمراً على أنه جواب لمن سأل متى يكون عذاب هؤلاء‏؟‏ فقيل له‏:‏ ‏{‏يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ‏}‏ أي يكون يوم الخ، وقيل‏:‏ بالكافرين وليس بشيء، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏جَمِيعاً‏}‏ حال جيء به للتأكيد، والمعنى يبعثهم الله تعالى كلهم بحيث لا يبقى منهم أحد غير مبعوث، ويجوز أن يكون حالا غير مؤكدة أي يبعثهم مجتمعين في صعيد واحد ‏{‏فَيُنَبّئُهُمْ بِمَا عَمِلُواْ‏}‏ من القبائح ببيان صدورها عنهم أو بتصويرها في تلك النشأة بمايليق بها من الصور الهائلة على رؤوس الاشهاد تخجيلاً لهم وتشهيراً بحالهم وزيادة في خزيهم ونكالهم، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أحصاه الله‏}‏ استئناف وقع جواباً عما نشأ مما قبله من السؤال إما عن كيفية التنبئة أو عن سببها كأنه قيل‏:‏ كيف ينبئهم بأعمالهم وهي أعراض متقضية متلاشية‏؟‏ فقيل‏:‏ أحصاه الله تعالى عدداً ولم يفته سبحانه منه شيء، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَنَسُوهُ‏}‏ حينئذ حال من مفعول أحصى باضمار قد أو بدونه، أو قيل‏:‏ لم ينبئهم بذلك‏؟‏ فقيل‏:‏ أحصاه الله تعالى ونسوه فينبئهم به ليعرفوا أن ما عاينوه من العذاب إنما حاق بهم لأجله، وفيه مزيد توبيخ وتنديم لهم غير التخجيل والتشهير ‏{‏والله على كُلّ شَىْء شَهِيدٌ‏}‏ لا يغيب عنه أمر من الأمور أصلا، والجملة اعتراض تذييلي مقرر لإحصائه تعالى أعمالهم، وقوله تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏7‏]‏

‏{‏أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ‏(‏7‏)‏‏}‏

‏{‏أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله مَا فِي السماوات وَمَا فِي الارض‏}‏ استشهاد على شمول شهادته تعالى أي ألم تعلم أنه عز وجل يعلم ما فيهما من الموجودات سواء كان ذلك بالاستقرار فيهما أو بالجزئية منهما‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏مَا يَكُونُ مِن نجوى ثلاثة‏}‏ الخ استئناف مقرر لما قبله من سعة علمه تعالى، و‏{‏يَكُونَ‏}‏ من كان التامة، و‏{‏مِنْ‏}‏ مزيدة، و‏{‏نجوى‏}‏ فاعل وهي مصدر بمعنى التناجي وهو المسارة مأخوذة من النجوة وهي ما ارتفع من الأرض لأن المتسارين يخلوان وحدهما بنجوة من الأرض، أو لأن السر يصان فكأنه رفع من حضيض الظهور إلى أوج الخفاء، وقيل‏:‏ أصل ناجيته من النجاة وهو أن تعاونه على ما فيه خلاصه أو أن تنجو بسرك من أن يطلع عليه وهي مضافة إلى ‏{‏ثلاثة‏}‏ أي ما يقع من تناجي ثلاثة نفر وقد يقدر مضاف أي من ذوي نجوى، أو يؤول نجوى بمتناجين فثلاثة صفة للمضاف المقدر، أو لنجوى المؤوّل بما ذكر‏.‏

وجوز أن يكون بدلاً أيضاً والتأويل والتقدير المذكوران ليتأتي الاستثناء الآتي من غير تكلف، وفي القاموس النجوى السر والمسارون اسم مصدر، وظاهره أن استعماله في كل حقيقة فإذا أريد المسارون لم يحتج إلى تقدير أو تأويل لكن قال الراغب‏:‏ إن النجوى أصله المصدر كما في الآيات بعد، وقد يوصف به فيقال‏:‏ هو نجوى‏.‏ وهم نجوى، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذْ هُمْ نجوى‏}‏ ‏[‏الاسراء‏:‏ 47‏]‏ وعليه يحتمل أن يكون من باب زيد عدل‏.‏

وقرأ أبو جعفر‏.‏ وأبو حيوة‏.‏ وشيبة ما تكون بالتاء الفوقية لتأنيث الفاعل، والقراءة بالياء التحتية قال الزمخشري‏:‏ على أن النجوى تأنيثها غير حقيقي، و‏{‏مِنْ‏}‏ فاصلة أو على أن المعنى ما يكون شيء من النجوى، واختار في الكشف الثاني، فقال‏:‏ هو الوجه لأن المؤنث وحده لم يجعل فاعلاً لفظاً لوجود ‏{‏مِنْ‏}‏ ولا معنى لأن المعنى شيء منها، فالتذكير هو الوجه لفظاً‏.‏ ومعنى، وهو قراءة العامة انتهى، وإلى نحوه يشير كلام صاحب اللوامح، وصرح بأن الأكثر في هذا الباب التذكير، وتعقبه أبو حيان بالمنع وأن الأكثر التأنيث وأنه القياس قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا تَأْتِيهِم مّنْ ءايَةٍ مّنْ ءايات رَبّهِمْ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 4‏]‏ ‏{‏مَّا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 5‏]‏ فتأمل، وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ‏}‏ استثناء مفرغ من أعم الأحوال، والرابع لإضافته إلى غير مماثلة هنا بمعنى الجاعل المصير لهم أربعة أي ما يكونون في حال من الأحوال إلا في حال تصيير الله تعالى لهم أربعة حيث أنه عز وجل يطلع أيضاً على نجواهم، وكذا قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلاَ خَمْسَةٍ‏}‏ أي ولا نجوى خمسة ‏{‏إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلاَ أدنى‏}‏ أي ولا نجوى أدنى ‏{‏مّن ذلك‏}‏ أي مما ذكر كالاثنين والأربعة ‏{‏وَلاَ أَكْثَرَ‏}‏ كالستة وما فوقها‏.‏

‏{‏إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ‏}‏ يعلم ما يجري بينهم ‏{‏أَيْنَ مَا كَانُواْ‏}‏ من الأماكن، ولو كانوا في بطن الأرض فإن علمه تعالى بالأشياء ليس لقرب مكاني حتى يتفاوت باختلاف الأمكنة قرباً وبعداً، وفي الداعي إلى تخصيص الثلاثة والخمسة وجهان‏:‏ أحدهما أن قوماً من المنافقين تخلفوا للتناجي مغايظة للمؤمنين على هذين العددين ثلاثة وخمسة، فقيل‏:‏ ما يتناجى منهم ثلاثة ولا خمسة كما ترونهم يتناجون كذلك ولا أدنى من عددهم ولا أكثر إلا والله تعالى معهم يعلم ما يقولون‏.‏ فالآية تعريض بالواقع على هذا، وقد روي عن ابن عباس أنها نزلت في ربيعة‏.‏ وحبيب ابني عمرو‏.‏ وصفوان بن أمية كانوا يوماً يتحدثون فقال‏:‏ أحدهم أترى أن الله يعلم ما نقول‏؟‏ فقال الآخر‏:‏ يعلم بعضاً ولا يعلم بعضاً، وقال الثالث‏:‏ إن كان يعلم بعضا فهو يعلمه كله أي لأن من علم بعض الأشياء بغير سبب فقد علمها كلها لأن كونه عالماً بغير سبب ثابت له مع كل معلوم، والثاني أنه قصد أن يذكر ما جرت عليه العادة من اعداد أهل النجوى والجالسين في خلو للشورى والمنتدبون لذلك إنما هم طائفة مجتباة من أولي الأحلام والنهي، وأول عددهم الاثنان فصاعداً إلى خمسة إلى ستة إلى ما اقتضته الحال، وحكم به الاستصواب، فذكر عز وجل الثلاثة والخمسة، وقال سبحانه‏:‏ ‏{‏وَلاَ أدنى مِن ذَلِكَ‏}‏ فدل على الاثنين والأربعة، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلاَ أَكْثَرَ‏}‏ فدل على ما يلي هذا العدد ويقاربه كذا في الكشاف‏.‏

وفي الكشف في خلاصة الوجه الثاني أنه خص العددان على المعتاد من عدد أهل النجوى فإنهم قليلو العدد غالباً فلزم أن يخص بالذكر نحو الثلاثة والأربعة إلى الثمانية والتسعة فأوثر الثلاثة ليكون قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلاَ أدنى مِن ذَلِكَ‏}‏ دالا على ما تحتها إذ لو أوثر الأربعة والستة مثلا كان الأدنى الثلاثة دون الاثنين إلا على التوسع ولما أوثرت جيء بالخمسة لتناسب الوترين وكان الأمر دائراً بين الثلاثة والخمسة والأربعة والستة فأوثرا بالتصريح لذلك، ولأنه تعالى وتريحب الوتر انتهى‏.‏

وقد يقال‏:‏ إن التناجي يكون في الغالب للشورى وهي لا تكون إلا بين عدد وأهلها قليلو العدد غالباً، والأليق أن يكون وتراً من الأعداد كالثلاثة والخمسة والسبعة والتسعة ليتحقق عند الاختلاف طرف يترجح بالزيادة على الطرف الآخر فيرجع إليه دونه كما هو العادة اليوم عند اختلاف أهل الشورى‏.‏

وجعل عمر رضي الله تعالى عنه الشورى في ستة لانحصار الأمر فيهم كما يدل عليه قوله لهم‏:‏ نظرت فوجدتكم رؤساء الناس وقادتهم، ولا يكون هذا الأمر إلا فيكم، وقد قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنكم راض، ومع هذا أمر ابنه عبد الله رضي الله تعالى عنه أن يحضر معهم وإن لم يكن له من أمر الخلافة شيء، فدار الأمر بعد اعتبار ما ذكر من وترية العدد وقلته بين الثلاثة والخمسة والسبعة والتسعة فاختيرت الثلاثة لأنها أول الأوتار العددية وإذا ضربت في نفسها حصل منتهاها من الآحاد ولا يخلو منها اعتبار كل ممكن حتى أن المطالب الفكرية للمتناجين مثلاً لا تتم بدون ثلاثة أشياء‏:‏ الموضوع‏.‏

والمحمول‏.‏ والحدّ الأوسط بل القضية التي تناجى لها لا بد فيها من ثلاثة أجزاء، والخمسة لأنها عدد دائر لا تنعدم بالضرب في نفسها، وكذا بضرب الحاصل في نفسه إلى ما لا يتناهى فلها شبه بالثلاثة من حيث أنها دائرة مع مراتب الضرب لا تنعدم أصلاً كما أن الثلاثة دائرة مع اعتبارات الممكن لا تنعدم أصلاً، ومع ذلك هي عدد المشاعر التي يحتاج إليها في التناجي، وكذا عدد الحواس الظاهرة، ويدخل ما عداهما في عموم قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلاَ أدنى مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ‏}‏ ولا يدخل في العموم الواحد لأن التناجي للمشاورة لا بد فيه من اثنين فأكثر، ومن أدخله لم يعتبر التناجي لها ولا يضر دخول الأشفاع فيه لأن أليقية كون المتناجين وتراً إنما كانت نكتة للتصريح بالعددين السابقين ولا تأبى تحقق النجوى في الأشفاع كما لا يخفى‏.‏

وادعى ابن سراقة أن النجوى مختصة بما كان بين أكثر من اثنين وأن ما يكون بين اثنين يسمى سراراً، وقال ابن عيسى‏:‏ كل سرار نجوى، وفي الآية لطائف وأسرار لا يعقلها إلا العالمون فليتأمل‏.‏

وقرأ ابن أبي عبلة ‏{‏ثلاثة‏}‏ و‏{‏خَمْسَةٍ‏}‏ بالنصب على الحال بإضمار يتناجون يدل عليه نجوى، أو على تأويل نجوى بمتناجين ونصبهما من المستكن فيه، وفي مصحف عبد الله إلا الله رابعهم ولا أربعة إلا الله خامسهم ولا خمسة إلا الله سادسهم ولا أقل من ذلك ولا أكثر إلا الله معهم إذا انتجوا وقرأ الحسن‏.‏ وابن أبي إسحق‏.‏ والأعمش‏.‏ وأبو حيوة‏.‏ وسلام‏.‏ ويعقوب ‏{‏وَلاَ أَكْثَرَ‏}‏ بالرفع قال الزمخشري‏:‏ على أنه معطوف على محل لا أدنى كقولك‏:‏ لا حول ولا قوة إلا بالله بفتح الحول ورفع القوة، ويجوز أن يعتبر ‏{‏أدنى‏}‏ مرفوعاً على هذه القراءة ورفعهما على الابتداء، والجملة التي بعد ‏{‏إِلا‏}‏ هي الخبر، أو على العطف على محل ‏{‏مِن نجوى‏}‏ أنه قيل‏:‏ ما يكون أدنى ولا أكثر إلا هو معهم، و‏{‏أَكْثَرَ‏}‏ على قراءة الجمهور يحتمل أن يكون مجروراً بالفتح معطوفاً على لفظ ‏{‏نجوى‏}‏ كأنه قيل‏:‏ ما يكون من أدنى ولا أكثر إلا هو معهم، وأن يكون مفتوحاً لأن ‏{‏لا‏}‏ لنفي الجنس، وقرأ كل من الحسن‏.‏

ويعقوب أيضاً‏.‏ ومجاهد‏.‏ والخليل بن أحمد ولا أكبر بالباء الموحدة والرفع وهو على ما سمعت ‏{‏ثُمَّ يُنَبّئُهُم بِمَا عَمِلُواْ يَوْمَ القيامة‏}‏ تفضيحاً لهم وإظهاراً لما يوجب عذابهم‏.‏

وقرىء ‏{‏يُنَبّئُهُمُ‏}‏ بالتخفيف والهمز، وقرأ زيد بن علي بالتخفيف وترك الهمز وكسر الهاء‏.‏

‏{‏أَنَّ الله بِكُلّ شَىْء عَلِيمٌ‏}‏ لأن نسبة ذاته المقتضى للعلم إلى الكل على السواء، وقد بدأ الله تعالى في هذه الآيات بالعلم حيث قال سبحانه‏:‏ ‏{‏أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله يَعْلَمُ‏}‏ الخ، وختم جل وعلا بالعلم أيضاً حيث قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الله‏}‏ الخ، ومن هنا قال معظم السلف فيما ذكر في البين من قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏رَّابِعُهُمْ‏}‏ و‏{‏سَادِسُهُمْ‏}‏ و‏{‏مَعَهُمْ‏}‏ أن المراد به كونه تعالى كذلك بحسب العلم مع أنهم الذين لا يؤوّلون، وكأنهم لم يعدّوا ذلك تأويلاً لغاية ظهوره واحتفافه بما يدل عليه دلالة لا خفاء فيها، ويعلم من هذا أن ما شاع من أن السلف لا يؤولون ليس على إطلاقه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏8‏]‏

‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ ‏(‏8‏)‏‏}‏

‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين نُهُواْ عَنِ النجوى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ‏}‏ قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما‏:‏ نزلت في اليهود والمنافقين كانوا يتناجون دون المؤمنين وينظرون إليهم ويتغامزون بأعينهم يوهمونهم عن أقاربهم أنهم أصابهم شر فلا يزالون كذلك حتى تقدم أقاربهم فلما كثر ذلك منهم شكا المؤمنون إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فنهاهم أن يتناجوا دون المؤمنين فعادوا لمثل فعلهم، وقال مجاهد نزلت في اليهود‏.‏

وقال ابن السائب‏:‏ في المنافقين، والخطاب للرسول عليه الصلاة والسلام والهمزة للتعجيب من حالهم، وصيغة المضارع للدلالة على تكرر عودهم وتجدده واستحضار صورته العجيبة، وقوله تعالى‏:‏

‏{‏ويتناجون بالإثم والعدوان وَمَعْصِيَتِ الرسول‏}‏ عطف عليه داخل في حكمه أي ويتناجون بما هو إثم في نفسه ووبال عليهم وتعدّ على المؤمنين وتواص بمخالفة الرسول صلى الله عليه وسلم، وذكره عليه الصلاة والسلام بعنوان الرسالة بين الخطابين المتوجهين وإليه صلى الله عليه وسلم لزيادة تشنيعهم واستعظام معصيتهم‏.‏

وقرأ حمزة‏.‏ وطلحة‏.‏ والأعمش‏.‏ ويحيى بن وثاب‏.‏ ورويس وينتجون بنون ساكنة بعد الياء وضم الجيم مضارع انتجى، وقرأ أبو حيوة العدوان بكسر العين حيث وقع، وقرىء معصيات بالجمع ونسبت فيما بعد إلى الضحاك ‏{‏وَإِذَا جَاءوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيّكَ بِهِ الله‏}‏ صح من رواية البخاري‏.‏ ومسلم‏.‏ وغيرهما عن عائشة ‏"‏ أن ناساً من اليهود دخلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا‏:‏ السام عليك يا أبا القاسم فقال عليه الصلاة والسلام‏:‏ وعليكم، قالت عائشة‏:‏ وقلت‏:‏ عليكم السام ولعنكم الله وغضب عليكم ‏"‏ وفي رواية ‏"‏ عليكم السام والذام واللعنة، فقال عليه الصلاة والسلام‏:‏ يا عائشة إن الله لا يحب الفاحش ولا المتفحش، فقلت‏:‏ ألا تسمعهم يقولون‏:‏ السام‏؟‏ا فقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ أو ما سمعت أقول‏:‏ وعليكم‏؟‏ا فأنزل الله تعالى ‏{‏وَإِذَا جاؤك‏}‏ ‏"‏ الآية‏.‏

وأخرج أحمد‏.‏ والبيهقي في «شعب الايمان» بسند جيد عن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما أن اليهود كانوا يقولون لرسول الله صلى الله عليه وسلم سام عليك يريدون بذلك شتمه ثم يقولون في أنفسهم‏:‏ لولا يعذبنا الله بما نقول فنزلت هذه الآية ‏{‏بالشاكرين وَإِذَا جَاءكَ‏}‏ الخ، والسام قال ابن الأثير‏:‏ المشهور فيه ترك الهمز ويعنون به الموت، وجاء في رواية مهموزاً ومعناه أنكم تسأمون دينكم، وصرح الخفاجي بأنه بمعنى الموت عبراني، ولم يذكر فيه الهمز وتركه‏.‏

وقال الطبرسي‏:‏ من قال‏:‏ السام الموت فهو من سأم الحياة بذهابها وهذا إرجاع له إلى المهموز، وجعل البيضاوي من التحية التي لم يحيه بها الله تعالى تحيتهم له عليه الصلاة والسلام بأنعم صباحاً وهي تحية الجاهلية كعم صباحاً ولم نقف على أثر في ذلك، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَيَقُولُونَ فِى أَنفُسِهِمْ‏}‏ أي فيما بينهم، وجوز إبقاؤه على ظاهره ‏{‏لَوْلاَ يُعَذّبُنَا الله بِمَا نَقُولُ‏}‏ أي هلا يعذبنا الله تعالى بسبب ذلك لو كان محمد صلى الله عليه وسلم نبياً أي لو كان نياً عذبنا الله تعالى بسبب ما نقول من التحية أوفق بالأول لأن أنعم صباحاً دعاء بخير والعدول إليه عن تحية الإسلام التي حيا الله تعالى بها رسوله صلى الله عليه وسلم، وأشير إليها بقوله تعالى‏:‏

‏{‏سلام على المرسلين‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 181‏]‏ ‏{‏وسلام على عِبَادِهِ الذين اصطفى‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 59‏]‏ وما جاء في التشهد «السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته» ليس فيه كثير إثم يتوقع معه التعذيب الدنيوي حتى أنهم يقولون ذلك إذا لم يعذبوا اللهم إلا إذا انضم إليه أنهم قصدوا بذلك تحقيراً وإعلاناً بعدم الاكتراث، ولعل قائل ذلك هم المنافقون من المشركين وهو أظهر من كون قائله اليهود، وحكم التحية به اليوم أنها خلاف السنة، والقول بالكراهة غير بعيد‏.‏

وفي تحفة المحتاج لا يستحق مبتدي بنحو صبحك الله بالخير أو قواك الله جوباً ودعاؤه له في نظيره حسن إلا أن يقصد بإهماله له تأديبه لتركه سنة السلام انتهى، وأنعم صباحاً نحو صبحك الله بالخير، غاية ما في الباب أنه دعاء كان يستعمل تحية في الجاهلية، نعم تحيتهم به له عليه الصلاة والسلام على الوجه الذي قصدوه حرام بلا خلاف ‏{‏حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ‏}‏ عذاباً ‏{‏يَصْلَوْنَهَا‏}‏ يدخلونها أو يقاسون حرها أو يصطلون بها‏.‏

‏{‏فَبِئْسَ المصير‏}‏ أي جهنم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏9‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلَا تَتَنَاجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ‏(‏9‏)‏‏}‏

‏{‏المصير ياأيها الذين ءامَنُواْ إِذَا تَنَاجَيْتُمْ‏}‏ في أنديتكم وفي خلواتكم‏.‏

‏{‏فَلاَ تتناجوا بالإثم والعدوان وَمَعْصِيَتِ الرسول‏}‏ كما يفعله المنافقون، فالخطاب للخلص تعريضاً بالمنافقين، وجوز جعله لهم وسموا مؤمنين باعتبار ظاهر أحوالهم‏.‏

وقرأ الكوفيون‏.‏ والأعمش‏.‏ وأبو حيوة‏.‏ ورويس فلا تنتجوا مضارع انتجى، وقرأ ابن محيصن فلا تناجوا بادغام التاء في التاء، وقرىء بحذف إحداهما ‏{‏وتناجوا بالبر والتقوى‏}‏ بما يتضمن خير المؤمنين والاتقاء عن معصية الرسول صلى الله عليه وسلم ‏{‏واتقوا‏}‏ فيما تأتون وما تذرون ‏{‏الله الذى إِلَيْهِ‏}‏ وحده لا إلى غيره سبحانه استقلالاً أو اشتراكاً ‏{‏تُحْشَرُونَ‏}‏ فيجازيكم على ذلك‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏10‏]‏

‏{‏إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ‏(‏10‏)‏‏}‏

‏{‏إِنَّمَا النجوى‏}‏ المعهودة التي هي التناجي بالإثم والعدوان والمعصية ‏{‏مِنَ الشيطان‏}‏ لا من غيره باعتبار أنه هو المزين لها والحامل عليها، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لِيَحْزُنَ الذين ءامَنُواْ‏}‏ خبر آخر أي إنما هي ليحزن المؤمنين بتوهمهم أنها في نكبة أصابتهم، وقرىء ‏{‏لِيَحْزُنَ‏}‏ بفتح الياء والزاي فالذين فاعل ‏{‏وَلَيْسَ بِضَارّهِمْ‏}‏ أي ليس الشيطان أو التناجي بضار المؤمنين ‏{‏شَيْئاً‏}‏ من الأشياء أو شيئاً من الضرر ‏{‏إِلاَّ بِإِذْنِ الله‏}‏ أي إلا بإرادته ومشيئته عز وجل، وذلك بأن يقضي سبحانه الموت أو الغلبة على أقاربهم ‏{‏وَعَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ المؤمنون‏}‏ ولا يبالوا بنجواهم‏.‏

وحاصله أن ما يتناجى المنافقون به مما يحزن المؤمنين إن وقع فبإرادة الله تعالى ومشيئته لا دخل لهم فيه فلا يكترث المؤمنون بتناجيهم وليتوكلوا على الله عز وجل ولا يحزنوا منه، فهذا الكلام لإزالة حزنهم، ومنه ضعف ما أشار إليه الزمخشري من جواز أن يرجع ضمير ليس بضارهم للحزن، وأجيب بأن المقصود يحصل عليه أيضاً فإنه إذا قيل‏:‏ إن هذا الحزن لا يضرهم إلا بإرادة الله تعالى اندفع حزنهم، هذا ومن الغريب ما قيل‏:‏ إن الآية نازلة في المنامات التي يراها المؤمن في النوم تسوؤه ويحزن منها فكأنها نجوى يناجي بها، وهذا على ما فيه لا يناسب السباق والسياق كما لا يخفى، ثم إن التناجي بين المؤمنين قد يكون منهياً عنه، فقد أخرج البخاري‏:‏ ومسلم‏.‏ والترمذي‏.‏ وأبو داود عن ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «إذا كنتم ثلاثة فلا يتناج اثنان دون الآخر حتى تختلطوا بالناس من أجل أن ذلك يحزنه» ومثل التناجي في ذلك أن يتكلم اثنان بحضور ثالث بلغة لا يفهمها الثالث إن كان يحزنه ذلك، ولما نهى سبحانه عن التناجي والسرار علم منه الجلوس مع الملأ فذكر جل وعلا آدابه بعده بقوله عز من قائل‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏11‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ‏(‏11‏)‏‏}‏

‏{‏المؤمنون ياأيها الذين ءامَنُواْ إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُواْ فِى المجالس‏}‏ الخ أو لما نهى عز وجل عما هو سبب للتباغض والتنافر أمر سبحانه بما هو سبب لتواد والتوافق أي إذا قال لكم قائل كائناً من كان‏:‏ توسعوا فليفسح بعضكم عن بعض في المجالس ولا تتضاموا فيها، من قولهم‏:‏ افسح عني أي تنح، والظاهر تعلق ‏{‏المجالس‏}‏ بتفسحوا، وقيل‏:‏ متعلق بقيل‏.‏

وقرأ الحسن‏.‏ وداود بن أبي هند‏.‏ وقتادة‏.‏ وعيسى تفاسحوا وقرأ الأخيران‏.‏ وعاصم في المجالس، والجمهور في المجلس بالإفراد، فقيل‏:‏ على إرادة الجنس لقراءة الجمع، وقيل‏:‏ على إرادة العهد، والمراد به مجلسه صلى الله عليه وسلم، والجمع لتعدده باعتبار من يجلس معه عليه الصلاة والسلام فإن لكل أحد منهم مجلساً، وفي أخبار سبب النزول ما يؤيد كلا، أخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل بن حيان «كان صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة في الصفة وفي المكان ضيق وكان عليه الصلاة والسلام يكرم أهل بدر من المهاجرين والأنصار فجاء ناس من أهل بدر منهم ثابت بن قيس بن شماس وقد سبقوا إلى المجالس فقاموا حيال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا‏:‏ السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته فرد النبي صلى الله عليه وسلم ثم سلم على القوم فردوا عليهم فقاموا على أرجلهم ينتظرون أن يوسع لهم فلم يفسحوا لهم فشق ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لبعض من حوله‏:‏ قم يا فلان ويا فلان فأقام نفراً مقدار من قدم فشق ذلك عليهم وعرفت كراهيته وفي جوههم، وقال المنافقون‏:‏ ما عدل بإقامة من أخد مجلسه وأحب قربه لمن تأخر عن الحضور فأنزل الله تعالى هذه الآية ‏{‏ذَلِكَ بِأَنَّ الذين كَفَرُواْ‏}‏» الخ، وكان ذلك ممن لم يفسح تنافساً في القرب من رسول الله صلى الله عليه وسلم ورغبة فيه ولا تكاد نفس تؤثر غيرها بذلك‏.‏

وقال الحسن‏.‏ ويزيد بن أبي حبيب‏:‏ كان الصحابة يتشاحون في مجالس القتال إذا اصطفوا للحرب فلا يوسع بعضهم لبعض رغبة في الشهادة فنزلت ‏{‏ذَلِكَ بِأَنَّ الذين كَفَرُواْ‏}‏ الخ، والأكثرون على أنها نزلت لما كان عليه المؤمنون من التضام في مجلسه صلى الله عليه وسلم والضنة بالقرب منه وترك التفسح لمقبل؛ وأياً ما كان فالحكم مطرد في مجلسه عليه الصلاة والسلام ومصاف القتال وغير ذلك، وقرىء في المجلس بفتح اللام، فإما أن يراد به ما أريد بالمكسور والفتح شاذ في الاستعمال، وإما أن يراد به المصدر، والجار متعلق بتفسحوا أي إذا قيل لكم توسعوا في جلوسكم ولا تضايقوا فيه ‏{‏فافسحوا يَفْسَحِ الله لَكُمْ‏}‏ أي في رحمته‏.‏

أو في منازلكم في الجنة‏.‏ أو في قبوركم‏.‏ أو في صدوركم‏.‏ أو في رزقكم أقوال‏.‏

وقال بعضهم‏:‏ المراد يفسح سبحانه لكم في كل ما تريدون الفسح فيه أي مما ذكر وغيره، وأنت تعلم أن الفسح يختلف المراد منه باختلاف متعلقاته كالمنازل والرزق والصدر فلا تغفل ‏{‏وَإِذَا قِيلَ انشزوا‏}‏ أي انهضوا للتوسعة على المقبلين ‏{‏فَانشُزُواْ‏}‏ فانهضوا ولا تتثبطوا، وأصله من النشز وهو المرتفع من الأرض فإن مريد التوسعة على المقبل يرتفع إلى فوق فيتسع الموضع، أو لأن النهوض نفسه ارتفاع قال الحسن‏.‏ وقتادة‏.‏ والضحاك‏:‏ المعنى إذا دعيتم إلى قتال أو صلاة أو طاعة فأجيبوا، وقيل‏:‏ إذا دعيتم إلى القيام عن مجلس النبي صلى الله عليه وسلم فقوموا، وهذا لأنه عليه الصلاة والسلام كان يؤثر أحياناً الانفراد في أمر الإسلام أو لأداء وظائف تخصه صلى الله عليه وسلم لا تتأتى أو لا تكمل بدون الانفراد، وعمم الحكم فقيل‏:‏ إذا قال صاحب مجلس لمن في مجلسه‏:‏ قوموا ينبغي أن يجاب، وفعل ذلك لحاجة إذا لم يترتب عليه مفسدة أعظم منها مما لا نزاع في جوازه، نعم لا ينبغي لقادم أن يقيم أحداً ليجلس في مجلسه، فقد أخرج مالك‏.‏ والبخاري‏.‏ ومسلم‏.‏ والترمذي عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «لا يقيم الرجل الرجل من مجلسه ولكن تفسحوا وتوسعوا»‏.‏

وقرأ الحسن‏.‏ والأعمش‏.‏ وطلحة‏.‏ وجمع من السبعة انشزوا فانشزوا بكسر الشين منهما‏.‏

‏{‏يَرْفَعِ الله الذين ءامَنُواْ مِنكُمْ‏}‏ جواب الأمر كأنه قيل‏:‏ إن تنشزوا يرفع عز وجل المؤمنين منكم في الآخرة جزاءاً للامتثال ‏{‏والذين أُوتُواْ العلم‏}‏ الشرعي ‏{‏درجات‏}‏ أي كثيرة جليلة كما يشعر به المقام، وعطف الذين أوتوا العلم على ‏{‏الذين كَفَرُواْ‏}‏ من عطف الخاص على العام تعظيماً لهم بعدّهم كأنهم جنس آخر، ولذا أعيد الموصول في النظم الكريم، وقد أخرج الترمذي‏.‏ وأبو داود‏.‏ والدارمي عن أبي الدرداء مرفوعاً «فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب» وأخرج الدارمي عن عمر بن كير عن الحسن قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «من جاءه الموت وهو يطلب العلم ليحيي به الإسلام فبينه وبين النبيين درجة» وعنه صلى الله عليه وسلم‏:‏ «بين العالم والعابد مائة درجة بين كل درجتين حضر الجواد المضمر سبعين سنة» وعنه عليه الصلاة والسلام «يشفع يوم القيامة ثلاثة‏:‏ الأنبياء‏.‏ ثم العلماء‏.‏ ثم الشهداء» فأعظم بمرتبة بين النبوة والشهادة بشهادة الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم، وعن ابن عباس

‏"‏ خير سليمان عليه السلام بين العلم والملك والمال فاختار العلم فأعطاه الله تعالى الملك والمال تبعاً له ‏"‏‏.‏

وعن الأحنف «كاد العلماء يكونوا أرباباً» وكل عز لم يوطد بعلم فإلى ذل ما يصير، وعن بعض الحكماء‏:‏ ليت شعري أي شيء أدرك من فاته العلم‏؟‏ وأي شيء فاته من أدرك العلم‏؟‏ والدال على فضل العلم والعلماء أكثر من أن يحصى، وأرجى حديث عندي في فضلهم ما رواه الإمام أبو حنيفة في مسنده عن ابن مسعود قال‏:‏ رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ يجمع الله العلماء يوم القيامة فيقول‏:‏ إني لم أجعل حكمتي في قلوبكم إلا وأنا أريد بكم الخير اذهبوا إلى الجنة فقد غفرت لكم على ما كان منكم ‏"‏‏.‏

وذكر العارف الياس الكوراني أنه أحد الأحاديث المسلسلة بالأولية، ودلالة الآية على فضلهم ظاهرة بل أخرج ابن المنذر عن ابن مسعود أنه قال‏:‏ ما خص الله تعالى العلماء في شيء من القرآن ما خصهم في هذه الآية فضل الله الذين آمنوا وأوتوا العلم على الذين آمنوا ولم يؤتوا العلم بدرجات وجعل بعضهم العطف عليه للتغاير بالذات بحمل ‏{‏الذين كَفَرُواْ‏}‏ على الذين آمنوا ولم يؤتوا العلم، وفي رواية أخرى عنه يا أيها الذين آمنوا افهموا معنى هذه الآية ولترغبكم في العلم فإن الله تعالى يرفع المؤمن العالم فوق الذي لا يعلم‏.‏

وادعى بعضهم أن في كلامه رضي الله تعالى عنه إشارة إلى أن الذين أوتوا معمول لفعل محذوف والعطف من عطف الجمل أي ويرفع الله تعالى الذي أوتوا العلم خاصة درجات، ونحوه كلام ابن عباس، فقد أخرج عنه ابن المنذر‏.‏ والبيهقي في المدخل‏.‏ والحاكم وصححه أنه قال في الآية‏:‏ يرفع الذين أوتوا العلم من المؤمنين على الذين لم يؤتوا العلم درجات‏.‏

وقال بعض المحققين‏:‏ لا حاجة إلى تقدير العامل، والمعنى على ذلك من غير تقدير، واختار الطيبي التقدير وجعل الدرجات معمولاً لذلك المقدر، وقال‏:‏ يضمر للمذكور أحط منه مما يناسب المقام نحو أن يقال‏:‏ يرفع الله الذين آمنوا في الدنيا بالنصر وحسن الذكر أو يرفعهم في الآخرة بالإيواء إلى ما لا يليق بهم من غرف الجنات، ويرفع الذين أوتوا العلم درجات تعظيماً لهم، وجوز كون المراد بالموصولين واحداً والعطف لتنزيل تغاير الصفات بمنزلة تغاير الذات، فالمعنى يرفع الله المؤمنين العالمين درجات، وكون العطف من عطف الخاص على العام هو الأظهر، وفي الانتصاف في الجزاء برفع الدرجات مناسبة للعمل المأمور به وهو التفسح في المجالس وترك ما تنافسوا فيه من الجلوس في أرفعها وأقربها من النبي صلى الله عليه وسلم فلما كان الممتثل لذلك يخفض نفسه عما يتنافس فيه من الرفعة امتثالاً وتواضعاً جوزي على تواضعه برفع الدرجات كقوله‏:‏

‏"‏ من تواضع لله تعالى رفعه الله تعالى ‏"‏ ثم لما علم سبحانه أن أهل العلم بحيث يستوجبون عند أنفسهم وعند الناس ارتفاع مجالسهم خصهم بالذكر عند الجزاء ليسهل عليهم ترك ما لهم من الرفعة في المجلس تواضعاً لله عز وجل‏.‏

وقيل‏:‏ إنه تعالى خص أهل العلم ليسهل عليهم ترك ما عرفوا بالحرص عليه من رفعة المجالس وحبهم للتصدير، وهذا من مغيبات القرآن لما ظهر من هؤلاء في سائر الاعصار من التنافس في ذلك‏.‏

والخفاجي أدرج هذا في نقل كلام صاحب الانتصاف وكلامه على ما سمعته أوفق بالأدب مع أهل العلم، ولا أظن بالذين أوتوا العلم المذكورين في الآية أنهم كالعلماء الذين عرّض بهم الخفاجي، نعم إنه عليه الرحمة صادق فيما قال بالنسبة إلى كثير من علماء رخر الزمان كعلماء «زمانه وكعلماء زماننا لكن كثير من هؤلاء إطلاق اسم العالم على أحدهم مجاز لا تعرف علاقته، ومع ذلك قد امتلأ قلبه من حب الصدر وجعل يزاحم العلماء حقيقة عليه ولم يدر أن محله لو أنصف العجز، هذا واستدل غير واحد بالآية على تقديم العالم ولو بأهلياً على الجاهل ولو هاشمياً شيخاً، وهو بناء على ما تقدم من معناها لدلالتها على فضل العالم على غيره من المؤمنين وأن الله تعالى يرفعه يوم القيامة عليه، ويجعل منزلته فوق منزلته فينبغي أن يكون محله في مجالس الدنيا فوق محل الجاهل‏.‏

وقال الجلال السيوطي في كتاب الأحكام قال قوم‏:‏ معنى الآية يرفع الله تعالى المؤمنين العلماء منكم درجات على غيرهم فلذلك أمر بالتفسح من أجلهم، ففيه دليل على رفع العلماء في المجالس والتفسح لهم عن المجالس الرفيعة انتهى‏.‏

وهذا المعنى الذي نقله ظاهر في أن المعاطفين متحدان بالذات والعطف لجعل تغاير الصفات بمنزلة تغاير الذات وهو احتمال بعيد، ويظهر منه يضاً أنه ظن رفع يرفع على أن الجملة استئناف وقع جواباً عن السؤال عن علة الأمر السابق مع أن الأمر ليس كذلك، ويحتمل أنه علم مجزوم في جواب الأمر لكن لم يعتبر كون الرفع درجات جزاءه الامتثال على نحو كون الفسح قبله جزاءه فتأمله ‏{‏والله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ‏}‏ تهديد لمن لم يمتثل بالأمر واستكره، وقرىء بما يعملون بالياء التحتانية‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏12‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏12‏)‏‏}‏

‏{‏خَبِيرٌ يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ إِذَا ناجيتم الرسول‏}‏ أي إذا أردتم المناجاة معه عليه الصلاة والسلام لأمر مّا من الأمور ‏{‏فَقَدّمُواْ بَيْنَ يَدَىْ أَوْ صَدَقَةٍ‏}‏ أي فتصدقوا قبلها، وفي الكلام استعارة تمثيلية، وأصل التركيب يستعمل فيمن له يدان أو مكنية بتشبية النجوى بالإنسان، وإثبات اليدين تخييل، وفي ‏{‏بَيْنَ‏}‏ ترشيح على ما قيل، ومعناه قبل؛ وفي هذا الأمر تعظيم الرسول صلى الله عليه وسلم ونفع للفقراء وتمييز بين الخلص والمنافق ومحب الآخرة ومحب الدنيا ودفع للتكاثر عليه صلى الله عليه وسلم من غير حاجة مهمة، فقد روى عن ابن عباس‏.‏ وقتادة أن قوماً من المسلمين كثرت مناجاتهم للرسول عليه الصلاة والسلام طول جلوسهم ومناجاتهم فنزلت، واختلف في أن الأمر للندب أو للوجوب لكنه نسخ بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَءشْفَقْتُمْ‏}‏ ‏[‏المجادلة‏:‏ 13‏]‏ الخ، وهو وإن كان متصلاً به تلاوة لكنه غير متصل به نزولاً، وقيل‏:‏ نسخ بآية الزكاة والمعول عليه الأول، ولم يعين مقدار الصدقة ليجزي الكثير والقليل، أخرج الترمذي وحسنه‏.‏ وجماعة عن علي كرم الله تعالى وجهه قال‏:‏ لما نزلت ‏{‏خَبِيرٌ يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ إِذَا ناجيتم‏}‏ الخ قال لي النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ «ما ترى في دينار‏؟‏ قلت‏:‏ لا يطيقونه، قال‏:‏ نصف دينار‏؟‏ قلت‏:‏ لا يطيقونه، قال‏:‏ فكم‏؟‏ قلت‏:‏ شعيرة، قال‏:‏ فإنك لزهيد» فلما نزلت ‏{‏أَءشْفَقْتُمْ‏}‏ ‏[‏المجادلة‏:‏ 13‏]‏ الآية قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ «خفف الله عن هذه الأمة» ولم يعمل بها على المشهور غيره كرم الله تعالى وجهه، أخرج الحاكم وصححه‏.‏ وابن المنذر‏.‏ وعبد بن حميد‏.‏ وغيرهم عنه كرم الله تعالى وجهه أنه قال‏:‏ إن في كتاب الله تعالى لآية ما عمل بها أحد قبلي ولا يعمل بها أحد بعدي آية النجوى ‏{‏خَبِيرٌ يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ إِذَا ناجيتم الرسول‏}‏ الخ كان عندي دينار فبعته بعشرة دراهم فكنت كلما ناجيت النبي صلى الله عليه وسلم قدمت بين يدي نجواي درهماً ثم نسخت فلم يعمل بها أحد، فنزلت ‏{‏أَءشْفَقْتُمْ‏}‏ الآية، قيل‏:‏ وهذا على القول بالوجوب محمول على أنه لم يتفق للأغنياء مناجاة في مدة بقاء الحكم، واختلف في مدة بقائه، فعن مقاتل أنها عشرة ليال، وقال قتادة‏:‏ ساعة من نهار، وقيل‏:‏ إنه نسخ قبل العمل به ولا يصح لما صح آنفاً‏.‏

وقرى صدقات بالجمع لجمع المخاطبين ‏{‏ذلك‏}‏ أي تقديم الصدقات ‏{‏خَيْرٌ لَّكُمْ‏}‏ لما فيه من الثواب ‏{‏وَأَطْهَرُ‏}‏ وأزكى لأنفسكم لما فيه من تعويدها على عدم الاكتراث بالمال وإضعاف علاقة حبه المدنس لها، وفيه إشارة إلى أن في ذلك إعداد النفس لمزيد الاستفاضة من رسول الله صلى الله عليه وسلم عند المناجاة‏.‏

وفي الكلام إشعار بندب تقديم الصدقة لكن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَإِن لَّمْ تَجِدُواْ فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ‏}‏ أي لمن لم يجد حيث رخص سبحانه له في المناجاة بلا تقديم صدقة أظهر إشعاراً بالوجوب‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏13‏]‏

‏{‏أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ‏(‏13‏)‏‏}‏

‏{‏وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ وناديناه أَن ياإبراهيم قَدْ صَدَّقْتَ‏}‏ أي أخفتم الفقر لأجل تقديم الصدقات فمفعول ‏{‏أشفقتم‏}‏ محذوف، و‏{‏حَمِيمٍ ءانٍ‏}‏ على إضمار حرف التعليل، ويجوز أن يكون المفعول ‏{‏أَن تُقَدّمُواْ‏}‏ فلا حذف أي أخفتم تقديم الصدقات لتوهم ترتب الفقر عليه، وجمع الصدقات لما أن الخوف لم يكن في الحقيقة من تقديم صدقة واحدة لأنه ليس مظنة الفقر بل من استمرار الأمر، وتقديم ‏{‏صدقات‏}‏ وهذا أولى مما قيل‏:‏ إن الجمع لجمع المخاطبين إذ يعلم منه وجه إفراد الصدقة فيما تقدم على قراءة الجمهور ‏{‏فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُواْ‏}‏ ما أمرتم به وشق عليكم ذلك ‏{‏وَتَابَ الله عَلَيْكُمْ‏}‏ بأن رخص لكم المناجاة من غير تقديم صدقة، وفيه على ما قيل‏:‏ إشعار بأن إشفاقهم ذنب تجاوز الله تعالى عنه لما رؤى منهم من الانقياد وعدم خوف الفقر بعد ما قام مقام توبتهم ‏{‏وَإِذْ‏}‏ على بابها أعني أنها ظرف لما مضى، وقيل‏:‏ إنها بمعنى ‏{‏إِذْ‏}‏ الظرفية للمستقبل كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِذِ الاغلال فِى أعناقهم‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 71‏]‏‏.‏

وقيل‏:‏ بمعنى إن الشرطية كأنه قيل‏:‏ فإن لم تفعلوا ‏{‏فَأَقِيمُواْ الصلاة وَءاتُواْ الزكواة‏}‏ والمعنى على الأول إنكم تركتم ذلك فيما مضى فتداركوه بالمثابرة على إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، واعتبرت المثابرة لأن المأمورين مقيمون للصلاة ومؤتون للزكاة، وعدل فصلوا إلى ‏{‏فَإِذَا قَضَيْتُمُ‏}‏ ليكون المراد المثابرة على توفية حقوق الصلاة ورعاية ما فيه كمالها لا على أصل فعلها فقط، ولما عدل عن ذلك لما ذكر جيء بما بعده على وزانه؛ ولم يقل وزكوا لئلا يتوهم أن المراد الأمر بتزكية النفس كذا قيل فتدبر ‏{‏وَأَطِيعُواْ الله وَرَسُولَهُ‏}‏ أي في سائر الأوامر، ومنها ما تقدم في ضمن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَيُّهَا الذين ءامَنُواْ إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُواْ فِى المجالس فافسحوا‏}‏ ‏[‏المجادلة‏:‏ 11‏]‏ الآيات وغير ذلك‏.‏

‏{‏والله خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ‏}‏ ظاهراً وباطناً‏.‏

وعن أبي عمرو يعملون بالتحتية‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏14‏]‏

‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ‏(‏14‏)‏‏}‏

‏{‏أَلَمْ تَرَ‏}‏ تعجيب من حال المنافقين الذين كانوا يتخذون اليهود أولياء ويناصحونهم وينقلون إليهم أسرار المؤمنين، وفيه على ما قال الخفاجي‏:‏ تلوين للخطاب بصرفه عن المؤمنين إلى الرسول صلى الله عليه وسلم أي ألم تنظر ‏{‏إِلَى الذين تَوَلَّوْاْ‏}‏ أي والوا ‏{‏قوْماً غَضِبَ الله عَلَيْهِمْ‏}‏ وهم اليهود ‏{‏مَّا هُم‏}‏ أي الذين تولوا ‏{‏مّنكُمْ‏}‏ معشر المؤمنين ‏{‏وَلاَ مِنْهُمْ‏}‏ أي من أولئك القوم المغضوب عليهم أعني اليهود لأنهم منافقون مذبذبون بين ذلك، وفي الحديث «مثل المنافق مثل الشاة العائرة بين غنمين أي المترددة بين قطيعين لا تدري أيهما تتبع»‏.‏

وجوز ابن عطية أن يكون ‏{‏هُمْ‏}‏ للقوم، وضمير ‏{‏مِنْهُمْ‏}‏ للذين تولوا، ثم قال‏:‏ فيكون فعل المنافقين على هذا أخس لأنهم تولوا مغضوباً عليهم ليسوا من أنفسهم فيلزمهم ذمامهم ولا من القوم المحقين فتكون الموالاة صواباً؛ والأول هو الظاهر والجملة عليه مستأنفة، وجوز كونها حالاً من فاعل ‏{‏تَوَلَّوْاْ‏}‏ ورد بعدم الواو، وأجيب بأنهم صرحوا بأن الجملة الاسمية المثبتة أو المنفية إذا وقعت حالاً تأتي بالواو فقط وبالضمير فقط وبهما معاً، وما ههنا أتت بالضمير أعني هم، وعلى ما قال ابن عطية‏:‏ في موضع الصفة لقوم‏.‏

وذكر المولى سعد الله أن في ‏{‏مّنكُمْ‏}‏ التفاتاً، وتعقب بأنه إن غلب فيه خطاب الرسول صلى الله عليه وسلم فظاهر أنه لا التفات فيه وإن لم يغلب فكذلك لا التفات فيه إذ ليس فيه مخالفة لمقتضى الظاهر لسبق خطابهم قبله، وفي جعله التفاتاً على رأي السكاكي نظر ‏{‏وَيَحْلِفُونَ عَلَى الكذب‏}‏ عطف على ‏{‏تَوَلَّوْاْ‏}‏ داخل في حيز التعجيب، وجوز عطفه على جملة ‏{‏مَّا هُم مّنكُمْ‏}‏ وصيغة المضارع للدلالة على تكرر الحلف، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَهُمْ يَعْلَمُونَ‏}‏ حال من فاعل يحلفون مفيدة لكمال شناعة ما فعلوا فإن الحلف على ما يعلم أنه كذب في غاية القبح، واستدل به على أن الكذب يعم مايعلم المخبر مطابقته للواقع وما لا يعلم مطابقته له فيرد به على مذهبي النظام‏.‏ والجاحظ إذ عليهما لا حاجة إليه، وبحث فيه أنه يجوز أن يراد بالكذب ما خالف اعتقادهم ‏{‏وَهُمْ يَعْلَمُونَ‏}‏ بمعنى يعلمون خلافه فكيون جملة حالية مؤدة لا مقيدة، نعم التأسيس هو الأصل لكنه غير متعين، والاحتمال يبطل الاستدلال والكذب الذي حلفوا عليه دعواهم الإسلام حقيقة، وقيل‏:‏ إنهم ما شتموا النبي صلى الله عليه وسلم بناءاً على ما روى «أنه كان رسول الله صلى الله عليه وسلم جالساً في ظل حجرة من حجره وعنده نفر من المسلمين، فقال‏:‏ إنكم سيأتيكم إنسان ينظر إليكم بعيني شيطان فإذا جاءكم فلا تكلموه فلم يلبثوا أن طلع عليهم رجل أزرق فقال عليه الصلاة والسلام حين رآه‏:‏ علام تشتمني أنت وأصحابك فقال‏:‏ ذرني آتك بهم فانطلق فدعاهم فخلفوا» فنزلت، وهذا الحديث أخرجه الإمام أحمد‏.‏

والبزار‏.‏ وابن المنذر‏.‏ وابن أبي حاتم‏.‏ والبيهقي في «الدلائل»‏.‏ وابن مردويه‏.‏ والحاكم وصححه عن ابن عباس إلا أن آخره «فأنزل الله ‏{‏يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ الله جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ‏}‏ ‏[‏المجادلة‏:‏ 18‏]‏» الآية والتي بعدها، ولعله يؤيد أيضاً اعتبار كون الكذب دعواهم أنهم ما شتموا‏.‏

وفي «البحر» رواية نحو ذلك عن السدي‏.‏ ومقاتل، وهو أنه عليه الصلاة والسلام قال لأصحابه‏:‏ يدخل عليكم رجل قلبه قلب جبار وينظر بعيني شيطان فدخل عبد الله بن نبتل وكان أزرق أمسر قصيراً خفيف اللحية فقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ علام تشتمني أنت وأصحابك فحلف بالله ما فعل فقال له‏:‏ فعلت فجاء بأصحابه فحلفوا بالله ما سبوه فنزلت، والله تعالى أعلم بصحته‏.‏

وعبد الله هذا هو الرجل المبهم في الخبر الأول، وهو ابن نبتل بفتح النون وسكون الباء الموحدة وبعدها تاء مثناة من فوق ولام ابن الحرث بن قيس الأنصاري الأوسي ذكره ابن الكلبي‏.‏ والبلاذري في المنافقين، وذكره أبو عبيدة في الصحابة فيحتمل كما قال ابن حجر‏:‏ إنه اطلع على أنه تاب، وأما قوله في «القاموس»‏:‏ عبد الله بن نبيل كأمير من المنافقين فيحتمل أنه هو هذا، واختلف في ضبط اسم أبيه ويحتمل أنه غيره‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏15‏]‏

‏{‏أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏15‏)‏‏}‏

‏{‏أَعَدَّ الله لَهُمْ‏}‏ بسبب ذلك ‏{‏عَذَاباً شَدِيداً‏}‏ نوعاً من العذاب متفاقماً ‏{‏إِنَّهُمْ سَاء مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ‏}‏ ما اعتادوا عمله وتمرنوا عليه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏16‏]‏

‏{‏اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ ‏(‏16‏)‏‏}‏

‏{‏اتخذوا أيمانهم‏}‏ الفاجرة التي يحلفون بها عند الحاجة ‏{‏جَنَّةُ‏}‏ وقاية وسترة عن المؤاخذة، وقرأ الحسن إيمانهم بكسر الهمزة أي إيمانهم الذي أظهروه للنبي صلى الله عليه وسلم وخلص المؤمنين؛ قال في «الإرشاد»‏:‏ والاتخاذ على هذا عبارة عن التستر بالفعل كأنه قيل‏:‏ تستروا بما أظهروه من الإيمان عن أن تستباح دماؤهم وأموالهم، وعلى قراءة الجمهور عبارة عن إعدادهم لأيمانهم الكاذبة وتهيئتهم لها إلى وقت الحاجة ليحلفوا بها ويخلصوا عن المؤاخذة لا عن استعمالها بالفعل فإن ذلك متأخر عن المؤاخذة المسبوقة بوقوع الجناية، وعن سببها أيضاً كما يعرب عنه الفاء في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَصَدُّواْ‏}‏ أي الناس‏.‏

‏{‏عَن سَبِيلِ الله‏}‏ في خلال أمنهم بتثبيط من لقوا عن الدخول في الإسلام وتضعيف أمر المسلمين عندهم، وقيل‏:‏ فصدوا المسلمين عن قتلهم فإنه سبيل الله تعالى فيهم، وقيل‏:‏ ‏{‏صدوا‏}‏ لازم، والمراد فأعرضوا عن الإسلام حقيقة وهو كما ترى ‏{‏الله فَلَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ‏}‏ وعيد ثان بوصف آخر لعذابهم، وقيل‏:‏ الأول عذاب القبر وهذا عذاب الآخرة، ويشعر به وصفه بالإهانة المقتضية للظهور فلا تكرار‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏17‏]‏

‏{‏لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ‏(‏17‏)‏‏}‏

‏{‏لَّن تُغْنِىَ عَنْهُمْ أموالهم وَلاَ أولادهم مّنَ الله شَيْئاً أُوْلَئِكَ أصحاب النار هُمْ فِيهَا خالدون‏}‏ قد سبق مثله في سورة آل عمران، وسبق الكلام فيه فمن أراده فليرجع إليه‏.‏